في عيد الأم ..تحية إلى الأباء
ناهد قرناص
(أقول لي امي كيف أصبحتي ..وأقول لي أبويا..اديني قرشي)..كان ابي يقول لي ضاحكا وهو يمد يده بقرش الحلوى (وأبوكي ما ينفع يتقالو كيف أصبحت؟)..كنت اخطف القرش واجري ..لا أتوقف حتى لأقلب سؤاله في ذهني ..صحي ليه ما ينفع أقول له كيف أصبحت..واطالبه فقط بالنفقة؟ لماذا نسجن الأب في خانة التمويل فقط وننسى كل ما يفعله لناوتلك البصمات التي يتركها في قلوبنا؟
كان أبي واحدا من غمار الناس ..لم يكن عمدة ولا شيخ حلة ..لم يكن ذا اموال ولا من الذين يكنزون الذهب والفضة ..لكنه كان كريما الى حد التوكل ..كانت أمي رحمها الله تحكي عنه (لو الليلة جاب ليك حاجات الشهر ..وبكرة قلت ليهو البيت فاضي ..ما بيسألك يقول ليك وين الحاجات الجبتها امبارح ؟ ..طوالي يمشي يدبر حاله ويجيب حاجات تانية )….كنا ونحن اطفال نثقل عليه بالطلبات ..وبالاحلام الصغيرة ..أذكر انني كنت ألح عليه ان يصير تاجرا ..وارسم له خطة (انت يا أبوي ما تعمل المخزن بتاعنا دا دكان زي بتاع سيد عبد العزيز ..عشان نشيل منو الحلاوة مجان ما كل مرة تدينا قروش ) ..كان يغالب الضحك وهو يقول (كدا مش حنخسر؟ يعني اشتري الحلاوة واجيبها في الدكان ..وبدل نبيعها ..انتي واخوانك تاكلوها مجان)..
لا أذكر انني رأيته يوما مخاصما امي ..او معاتبا لها ..كان دائما يشكرها ان احضرت له كوب الشاي او فرشت له السجادة للصلاة .. كنت أراهما دائما ضاحكين معا ..يتحدثان بالنوبية وهي تحكي له قصصنا خلال اليوم ..لم يحدث ان انتقد يوما طعاما لنا (انا ونادية اختي ) وقد كنا في بدايات التعلم للطبخ ..كانت أمي تقسم الايام بيننا ..كل يوم على واحدة وكان دائما ما يجد الاعذار للاخطاء التي نرتكبها ..وياما اكل البامية وهي لم تنضج جيدا ..وابتلع تلك الشعيرية التي (تلبكت) دون ان يوبخنا ..
كان حكيما على طريقته البسيطة ..يحرص مثلا على ان يشرب شاي اللبن في العصرية قبل ذهابه الى أي مشوار ..قريب او بعيد ..وكنا نقول له ونحن نستعجل الخروج ..(حنشرب الشاي قدام) ..كان يهز رأسه نافيا ويقول (تطلع من بيتك حزين ..تلقى الفرح فين؟) ..الان استعيد عبارته تلك فاجد خلفها تكمن تلك العزة ورفض ربط حاجته باناس اخرين أعطوه او منعوه ..وربما كانت تقديرا لأحوال البشر فهو لا يعلم ظروفهم وهل يمكنهم عمل الشاي له ام لا ..واخيرا اقرار ان السعادة تنبع من الداخل ..فلو كان منبتك حزينا ..فلن تنفع مسارح العالم في تسليتك.
عندما لم يتم قبولي بكلية الطب ..كاد الحزن ان يشقني ..فقد كنت متفوقة طوال سنوات دراستي ..ولم يخطر ببالي ان الأقدار يمكن ان تذهب بي الى طريق مختلف ..أذكر أنه قال لي (لو كل الناس بقوا دكاترة ..مين اللي حيسوق القطر ..ومين اللي حيزرع الأرض ؟؟ الدنيا محتاجة للناس كلهم ) ..قلت له من بين دموعي (بس انا شاطرة وقريت كويس ) ..ابتسم وقال لي (وخليك شاطرة برضو في المكان القسمو ليك ربنا).
عندما انجبت ابني (احمد) سميته تيمنا به ..احتجت خالتي بثينة (الله يطراها بالخير) قالت لي مداعبة (احمد قرناص ود عمتي كان لونه فاتح.. ولدك دا اخدر) ..فعاجلتها امي (لكنه طوالي مبتسم زي حاج قرناص) ..كانت ترى فيه شيئا من أبي لذلك كانت تفضله على بقية اولادي ..وتستمع بصبر لقصصه الطويلة عن مشاكله ومشاكساته في المدرسة وهما يحتسيان (الشاي الاحمر مع البليلة العدسي) ..ولا زالت هذه وجبة احمد ابني المفضلة.
عندما ماتت امي ..كاد الألم ان يفتك بنا ..فقد مضت دون ان تمهد لنا بمرض طويل ..انسحبت بسلام كما عاشت بسلام ..ذهبت كما تدعو دائما (من القوة للهوة) ..يومها رأيته في نومي سعيدا بلحاقها به بعد سنوات ..يحادثها جالسا على سريره المعهود في بيتنا في عطبرة ..وكانت هي في جلستها المعتادة مفترشة المصلاة ..ربما كانت تحكي له عما حدث بعد رحيله ..حينها علمت ان الموت ليس سوى بوابة الى ذلك الشاطئ الاخر ..حيث لا عنت ولا معاناة ..سكنت روحي بعد تلك الرؤيا ..لكن عيني لا تزال تدمع كل ما اتت ذكرى احدهما.
كنت أريد الكتابة عن امي ..فوجدتني اكتب عن أبي ..ربما لأنني لا اتذكرهما الا معا ..ذلك زمن ظلته المحبة والمودة والسكينة…ولم تمد (قوانين الجندر ولا منظمات حقوق الرجل) رأسها في المجتمعات ..فالزمن (كان مبتسم والليالي جميلة حالمة) ..لذلك وددت ان ارفع تحيتي الى أؤلئك الاباء العاديين ..الذين نمر بهم ولا يثيرون اهتمامنا ..الذين يعملون في المصانع والورش والمزارع ..الذين نقابلهم في الطرقات ..ونزاحمهم في الحافلات ..الذين يبيتون جياعا ليأكل اطفالهم ..يضربون أخماسا في أسداس ليدبروا حق المدارس والمشافي ..الذين يحلمون بغد أفضل لابنائهم ..حاملين شعار (الانكسرت فيني تنجبر في ولدي ) ..اليهم جميعا سلامي واحترامي ..وفي عيد الام اهديكم كلمات الاغنية (أنا في شخصك بحترم أشخاص ..وطبعا عندي احترامك خاص)