حالة تسامي
حرية الرأي
عثمان ميرغني
بعد أشهر قليلة من تشكيل الحكومة الانتقالية في السودان برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك، اتصل بي أحد السودانيين المهمّومين بأمر الوطن ويقيم خارج البلاد، واقترح لي الدعوة عبر منبر صحيفة “التيار” لتبرعات لصالح الحكومة عسى أن تساعد في تخطي التحدي الإقتصادي، قلت له إنها ليست فكرة سديدة في هذا الوقت المبكر بعد تشكيل الحكومة لأن مؤسسات الدولة المالية لا تزال غير قادرة على ادارة الأموال العامة بالصورة المثلى التي تحفظ موارد البلاد.
بعد حوالي أسبوع واحد أعلن مجلس الوزراء عن مشروع “القومة للسودان” وفتح باب التبرعات على مصراعيه للسودانيين بالداخل والخارج، فكتبت مباشرة في اليوم التالي في عمودي “حديث المدينة” ادعو الشعب للاستجابة لهذه الحملة و أن يشمر الجميع ساعد الجد ويتبرع بما يساعد على انجاح الحملة.. الصورة بدت متناقضة لذلك المواطن السوداني فاتصل بي مندهشا، كيف تغير رأيك؟ طلبت مِنّا أن لا نتبرع، وعندما أعلن حمدوك حملة “القومة للسودان” و فتح باب التبرعات طلبت مِنّا أن نتبرع، كيف ذلك؟
هنا شرحت له الحاجة الماسة لوضع علامات واضحة تحدد المسافة الفاصلة بين “الرأي”، و”الموقف”.
أن ارفض الدعوة للتبرعات لأني أقدر أن مؤسسات الدولة عاجزة عن ادارة المال العام، هذا رأيي. لكن إذا أعلن رئيس الوزراء رسميا عن حملة تبرعات، وكتبت أدعو الشعب لعدم التبرع، هنا أتخظى الرأي إلى الموقف الذي يهزم الدولة ويضعف بنيانها المؤسسي.
تأملوا معي هذه القصة.. التي “حفظونا” نصها في المدرسة دون أن ينفذوا إلى معانيها الرفيعة..
قصة “صلح الحديبية” لا أريد أن أكررها هنا فهي من ضمن ما حفظناه (صم).. لكني أتحسس موضعاً بالغ التعقيد في القصة..
بعد توقيع معاهدة الصلح الظالمة بين المسلمين وكفار قريش.. والتي قضت بنودها بتعليق دخول المسلمين لمكة إلى العام التالي.. مع بنود أخرى غاية في الإجحاف.. منها أن يلتزم المسلمون بتسليم أي من يلجأ إليهم من قريش وحلفائها، بينما ليس على قريش أن تفعل المثل وتسلم من يلجأ إليها من المسلمين أو حلفائهم.. وبعد انتهاء مراسم توقيع المعاهدة الظالمة.. وحسب ما روى الأمام أحمد في مسنده..
قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: (يأيها الناس انحروا واحلقوا)، دلالة على انتهاء رحلة الحج وتأهباً للعودة.. فما الذي حدث؟
لم يقم أحد من مقامه.. كررها الرسول- صلى الله عليه وسلم- فلم يقم أحد من مقامه.. كان المشهد يبدو حالة “عصيان مدني” كامل الدسم، أو تمردا عسكريا. أحس الرسول الكريم بالحزن، فرجع ودخل على زوجته أم سلمة و قال لها: (يا أم سلمة! ما شأن الناس؟)
قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك، فعل الناس ذلك.
خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يكلم أحداً حتى أتى هديه، فنحره، ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون.
ما الذي حدث بالضبط؟؟
هل فعلا كانت حالة (عصيان)؟ العياذ بالله.. فهم أطاعوه في أشد من هذا، وفي وقت كان أقل عددا و قوة.. بل وفي نفس هذه الواقعة كانوا عاهدوه على قتال أهل مكة، ودخولها عنوة لما سرت (شائعة) أن مندوب المسلمين، الذي أرسلوه إلى قريش تعرض إلى التصفية الجسدية.
.. لماذا لم ينفّذ الصحابة أمر رسول الله الصريح؟ لدرجة أن يستشير زوجته.. فتهدي إليه الحل.. أن يحلق وينحر هو.. فيتبعونه بالفعل..
ما هو تفسير (عدم) استجابة الصحابة إلى الأمر الشفهي.. رغم تكراره لهم..؟؟
هنا يبرز الوجه الذي لم تُعلّمه لنا كتب المدرسة و “حصة الدين”، ولا خطب المساجد، التي لا تنفك تردد هذه القصة بتكرار خالٍ من التفسير، والاستنباط.
الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- ربى أصحابه على يديه أفضل تربية.. استخرج من كوامنهم أرفع درجات الإنسانية، وسمو الخلق، ونصاعة العقل النجيب
من أبرز ما علمه الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه.. “حرية الرأي..والتفكير والتعبير”.. تلك الحرية التي رَفّع بها القرآن مقام الإنسان الكريم.. (ولقد كرمنا بني آدم..) ، و (من شاء فليؤمن.. ومن شاء فليكفر..)
لم يعصِ الصحابة قائدهم الأعظم.. بل “عبَّروا” عن رأيهم في معاهدة الصلح.. هكذا علمهم.. حرية الرأي والتعبير.. استخدموا حق “الاضراب” للتعبير عن رأيهم في المعاهدة مع قريش.
و لكن الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم علمهم أيضاً “حدود!!” هذه الحرية.. عندما تصطدم بـ (المؤسسية)، وتؤدي إلى (إفساد) النظام، وتهديد كيان الدولة
عندما شرع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حلق شعر رأسه ونحر هديه، تحول الوضع من حالة “تعبير عن الرأي” إلى “إجراء مؤسسي” يعرقل عمل الدولة، هنا لم يتردد الصحابة، اندفعوا يتسابقون على حلق رؤوسهم، ونحر الهدي
أعلمتم كيف بنى محمد إنساناً رفيع الإنسانية.. فما كان معجزاً بعد ذلك أن يفتحوا الشرق، والغرب، ويؤسسوا أعظم دولة في التأريخ.. من الصين إلى الأندلس؟
من الحكمة ادراك المسافة الفاصلة بين الرأي الذي يساعد في بناء الفكرة ويصلح حال الجميع والدولة، و “الموقف” الذي يؤدي لهدم بنيان الدولة، فالدولة ليست مجرد حدود جغرافية أو علم يرفع فوق السارية، بل هي كيان مؤسسي قد يتضعضع ويتصدع ان لم يكن قادرا على صيانة تماسك نظام الدولة State Order.
في موقعة بدر، عندما حدد الرسول صلى الله عليه وسلم احداثيات ميدان المعركة وطلب من أصحابه أن يعسكروا في الموقع الذي حدده، سألوه بكل احترام هل هذا “أمر” أم “رأي”؟
(يا رسول الله، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه، ولا نقصر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)، فقال لهم (بل هو الرأي والحرب والمكيدة)، هنا لم يترددوا واقترحوا موقعا أخر يمكنهم ميزة السيطرة على موارد المياه وحرمان العدو منها، فاستجاب لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان النصر.
حدود الرأي أن لا يضعف أو يهدد نظام الدولة.